لم يزل ذلك الموقف عالق في ذهني ..
على الرغم من بساطته إلا أن عمقه قد وصل إلى جذور خلايا دماغي وبقيت صورته عالقة فتمسكت فيه حتى تمكنت !
كعادتي اليومية في أيام العمل أدلف إلى باب الصيدلية ، طارقا قبلها الباب بأدب وحامل معي لفظ : السلام عليكم !
ترد مشرفة العمل عليّ بمثل ما قلت و زادت بأفضل أجرّ !
يأتي عمّال النظافة يؤدوون عملهم المعتاد مثلهم مثل باكورة عجلة العمل الادمي المعتاد الذي ما إن تبدأ حتى يطحنك عملك كحركة المتارس و تسانينها ثمان ساعات في اليوم وقد تزيد ، أياما و شهورا و سنين !
ما لم يكن معتادا هو إستقبالها الحار لهم ، تخرج العطر الذي تحتفظ به في شنطتها التي وضعتها جانبا لتغرقهم بها ، تسأل عن حالهم و حال عائلاتهم و أبنائهم ، وكأن القادم مدير مؤسسة أو مسؤول لقطاع معين !
لم تفرق بين عالي المنصب و أسفله بموقفها ذاك ، كانت في عينهم على كفّ سواء .. !
يؤسفني القول بأني أواجه الكثير من مواقف تتعلق بالفوقية ، بعضنا يرى من نفسه دما لا يختلط بغيره من الاعراق ، يأنف مخالطة الاخرين ، فلا يتودد لهم و لا يجالسهم ، بس يعتبرهم كجماد وضع لأجله فقط كأن يفرغ مثلا عليه غضبه المقبوض و المكبوت في أعماقه بسلسلة لا تنقطع من الاوامر و النواهي .. !
أستحضر في ذهني قول “والله لا تنصرون إلا بضعفائكم” أولئلك القوم الذين إن أحبوك و أجلوك كنت أنت وقودهم للحياة ، فلا شئ يساوي ذلك الدعم العاطفي الذي تقدمه لهم لا المادي الذي ننشره رغما عنا بعض الاحيان كشكل “زكاة” خواء لا روح فيها و لا عاطفة !
مقاصد الشرعية عظيمة في هذا الجانب ، ولكن لن يدرك ذلك متعنصر أخذ على عاتقه حب الاقصاء و التركيز على من هم في مستواه كما يظن أو أعلى !
نعم مثل تلك المرأة صاحبة العطر قليل ، قليل جداً ، فنحن على مستوى المجتمع يبقى معنا ذلك العامل الوافد وقد أمضى عقودا دون أن يستضاف في بيت أحدنا ، ودون أن نعلم عنه مثقال ذرة غير إسمه الظاهر الذي نستعين في مناداته لنجدتنا في أمور قشورية و سطحية لا نستطيع لولا وجوده بيننا القيام بها كي لا تجرح كرامتنا أو يحط من قدرنا في أعيننا قبل أعين الاخرين !
في بعض الاحيان أتسائل إن كانت نعمة الرخاء التي ننعم ولا ندركها أبدا شئ في صالحنا حال مثولنا أمام رب الخلق أو لا !
هل هي نعمة تستوجب الشكر ولم نقدرها حق قدرها ، أم نقمة سنسأل عنها كثيراً !
الاسلام عظيم بأن جعل المسجد الذي يفد إليه الناس من مختلف الاعراق ذو طبيعة واحدة لا فرق بينهم بعين الرب ، يقف جنبا إلى جنب معك ذلك الادمي القادم من بعيد بحالته الرثة ، وثيابه البالية ، وربما رائحته المختلفة عنك ، ولغته التي لا تفهم أشكال حروفها ! وأستحضر بعدئذ “رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له ، لو أقسم على الله لأبره”
حتى تصميم مدننا يفرق بين القوي و الضعيف ، الغني والفقير ، من ينتمي لقبيلته و ومن لا يملك ذلك الفخر الكاذب !
أنت قد تدع ملابسك عند أحدهم ليقوم بغسلها ، فلا تقوم بأبسط أنواع الصدقة “الابتسامة” ولا ترد عليه “سلاما” و لا قد تبادله بالشكر و العرفان ب “شكرا” ! وأيضا هو الامر ينطبق مع سائقك أو خادمك أو من يغسل سيارتك أو من يهذب خصل شعرك وذقنك أو من يقوم بوجبتك في المطعم و الامثلة كثيرة !
أتمنى أن نتغير ، و أن نحيي مقاصد الشريعة ، أن يعود إلى دياره ذلك الوافد وهو يحمل في ذاكرته شيئا جميلا ربطه بتلك الدولة التي تفيض بالاموال من قلب الصحراء ، ليعلم أن في ملامح تلك الصحراء وتضاريسها القاسية ، قلوبا أحن من صورتها النمطية الجغرافية التي إعتاد عامة الناس معرفتهم عنها !